التصورات الفكرية عند أفلاطون والفارابي
التصورات الفكرية للأمن الاجتماعي
من خلال العرض في الفصل السابق تبين أن الأمن شامل لكل جوانب الحياة الفردية والمجتمعية، بل ومنظومة متكاملة لا يتجزأ فأمن الفرد من أمن المجتمع والدولة فلا غنى لأحدهما عن الآخر، وكذلك ترتبط أنواع الأمن فيما بينهما فلا أمن صحي من دون أمن غذائي، ولا أمن اقتصادي من دون أمن سياسي…الخ.
ومفهوم الأمن الاجتماعي من المفاهيم الحديثة التي نالت عناية بالغة بعد الحرب العالمية الأولى، إلا أن مضمونه قديم قدم المجتمع الإنساني، وكل عصر له ظروفه ومتغيراته، فالعالم مجموعة متغيرات تتحكم به بصورة دائمة، ولا يمكن أن يبقى أي مجتمع قوي ومزدهر إذا لم يتحقق له الأمن الاجتماعي، وبذلك سنتناول بعض النظريات عند قليل من المفكرين القدامى، ونستخلص الأفكار النظرية للأمن الاجتماعي من خلال التصورات الفكرية التي قدموها، وهم كما يلي :
التصور الفكري للامن الاجتماعي عند أفــلاطون
مفكر يوناني عاش في الفترة (427 – 347 ق.م) شهد في بداية عصره جوانب مظلمة وهي الحرب المستمرة بين كثير من المدن اليونانية على رأسها أثينا وإسبرطة وغيرها.
كما شهد الفساد السياسي في السلوك وانهيار التقاليد والمبادئ التي كانت موضع احترام وسند للمجتمع، وانتفى كل دافع أخلاقي وأصبح قانون بلاده المصلحة لا العدل وعمادها القوة لا العقل.
الأمر الذي دفعه إلى أن يتخيل نظام لأثينا وأن يرد أعمال البشر وسلوكهم إلى مقاييس من الخير والجمال، حيث أراد رؤية العالم كما يجب أن يكون لا كما هو سائد فعلاً.
وفي كتابه الجمهورية الذي اعتبره الأمثل لقيام جمهورية مثالية أو مدينة فاضلة تنتفي فيها كل الشرور والآثام التي تزخر بها المجتمعات، تخيل مدينة فاضلة تقوم على الفضيلة وتظلها العدالة.
وقد شبه افلاطون المدينة الفاضلة بالفرد أي أنها مكونة من أجزاء كما يتكون جسم الإنسان من أعضاء وكل جزء يؤدي وظيفة خاصة، ترتبط كلها في مركز واحد، وتسعى جميعها إلى تحقيق غاية مشتركة، فالتكامل والتعاون فيما بينهم وعدم كفاية الفرد بنفسه يكفل لهم تحقيق الكمال المادي والروحي.
رأى أفلاطون بأن الحياة الاجتماعية بحاجة إلى تنظيماً داخلياً محوره الفضيلة والعدالة، فالفضيلة هي حسن أداء الوظائف والتعفف كما تكون الشجاعة والسخاء والعدل والأخلاق المرضية من الفضائل، أما أول تجسيد للعدالة هو توزيع العمل بحيث يقوم كل فرد بوظيفة محددة.
المدينة الفاضلة لأفلاطون
وخلص إلى أن المدينة الفاضلة تقوم بأدوار ثلاثة هي :
1- الإدارة (الحكام)، ويقوم بها الفلاسفة الذين ولد معهم الاستعداد للحكمة والحكم، وتتولى هذه الطبقة سياسية أمور الدولة العليا، وفضيلتها الحكمة والفطنة والحزم.
2- الدفاع (الحماة أو الجند)، يقومون بحماية المدينة والدفاع عنها من أي عدوان خارجي، والدفاع عن أفراد المجتمع وحماية مصالح الطبقة الحاكمة، فضيلتهم الشجاعة وحب المخاطرة.
3- الإنتاج (أصحاب الأعمال)، كالمزارعين والصُناع والتُجار الذين يُقدمون للمجتمع أسباب العيش المادي من مطعم ومسكن وملبس ومال، وفضيلتهم التعفف والاعتدال.
المدينة الفاضلة هي تلك التي تقوم على العدل والفضيلة وكلاهما يُكتسب بالتعلم والتربية، وهي التي يعيش سكانها في أمن وأمان واستقرار سياسي واجتماعي، وهكذا تبلورت في ذهن أفلاطون المدينة الآمنة، فهي ما يُقصد به تحقيق الأمن الاجتماعي بالمفهوم الحديث.
التصور الفكري للامن الاجتماعي عند الفارابي
عاش أبو نصر محمد الفارابي (273 – 350 هـ) في العصر العباسي الثاني الذي يُعد من أكثر عصور الدولة الإسلامية اضطراباً وفتنة وأقلها استقراراً وقد سادت الفتن والثورات نتيجة عدة عوامل منها ما هو ديني ومنها ما هو ثقافي وشعوبي، الأمر الذي أثر في فكر الفارابي.
وقد ربط الفارابي الفضائل كلها بمذهبه السياسي، إلا أن تحصيل الفضائل يتم بطريقتين هما التعليم والتأديب، فالتعليم هو إيجاد الفضائل النظرية في الأمم والمدن، والتدريب هو طريق إيجاد الفضائل الخلقية والصناعات العملية في الأمم، من أشهر مؤلفاته (آراء أهل المدينة الفاضلة) وغايته تكوين مجتمع فاضل أو جمهورية مثالية على غرار جمهورية أفلاطون.
وأوضح في دراسته لطبيعة المجتمع ضرورة الاجتماع الإنساني، وأن الإنسان بفطرته محتاج إليه مادياً ومعنوياً، لأن الإنسان لا يستطيع أن يفي بحاجاته كلها بمفرده، بل يحتاج إلى قوم، يقوم كل واحد منهم بشيء (متخصص فيه) حتى يبلغ الكمال، والكمال الذي يقصده هو السعادة أي (الخير المطلق).
تقسيم المجتمعات عند الفارابي
وبعد ذلك انتقل إلى تقسيم المجتمعات الإنسانية إلى نوعان :
1- مجتمعات كاملة، التي يتحقق فيها التعاون الاجتماعي بأكمل وأرقى صوره، ولها ثلاث مستويات:
أ- عظمى، وهي اجتماعات الجماعة كلها في المعمورة (العالم).
ب- الوسطى، اجتماع أمة في جزء من المعمورة (محلي أو إقليم أو دولة).
ت- الصغرى، اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة، ويرى في هذا المستوى (المدينة) أنه أكمل التجمعات وأميزها، وهي نقطة البداية في صلاح الإنسانية، ويرى بأن تحقيق السعادة كلها يكون أولاً في المدينة ثم الأمة ثم المعمورة، كما يرى بأن أي اجتماعات أقل منها تُعتبر ناقصة.
2- مجتمعات ناقصة (غير كاملة)، وهي التي لا تستطيع أن تكفي نفسها بنفسها ولا تحقق لأفرادها السعادة، ويصنفها إلى ثلاثة مستويات هي :
أ- اجتماع أهل القرية/المحلة، وهي أكملها اجتماعاً، ويرى أنها خادمة للمدينة تمدها بالضروريات.
ب- اجتماع في سكة، اجتماع في الشارع.
ت- اجتماع في منزل، أفراد الأسرة.
والتقسيم السابق يجب أن يتحقق فيه مظهر التعاون والتكامل والتوافق في سد الحاجات، حاجة التجمعات بعضها للبعض الآخر، بشكل جماعي وشكل فردي أيضاً وذلك بأن يختص كل فرد من أفرادها بالعمل الذي يتقنه ويجيده (أحدهم طبيب والآخر معلم والثالث مزارع وآخر جندي …إلخ).
وشبه الفارابي المجتمع بالكائن الحي (جسم الإنسان) الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم الحياة وحفظها واستمرارها، وقال أن الجسم أعضاؤه مختلفة الفطرة والقوى إشارة إلى أن كل فرد في المجتمع يجب أن تكون له وظيفة مختلفة عن الآخرين، ويكون كل فرد مكملاً للآخر ومتوافقاً معه.
ثم أشار إلى أن الجسم فيه عضو بمثابة الرئيس وهو القلب، كذلك حال المدينة الفاضلة يجب أن يكون فيها إنسان يرأسها ويرأس أفرادها، ليكون زعيمها ومصدر حياتها ودعامة نسقها ونظامها.
ولم يغفل الفارابي عن المدن غير الفاضلة، وهي المدن الجاهلة والفاسقة والضالة، التي غيرت معتقداتها ولم تتبع العقيدة الصحيحة في الله والعقل الفعال، وهي الفاسقة التي تعلم دون أن تعمل بما علمته، والتي لم يعرف أهلها السعادة، وما يهمها هو سلامة الأبدان والتمتع بالملذات والشهوات… إلخ.
العودة لقسم العلوم الأمنية من هنــــا