أنواع وأشكال الأمن
عناصر الأمن الاجتماعي تعد نتاج للتطور العلمي الذي شهده العالم وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى بالإضافة لما شهده العالم من تهديدات مختلفة أثرت على الاستقرار لدى الفرد والمجتمع، مما دفع المهتمين إلى إدخال مفاهيم أمنية تتسم بصفة تخصصية، فالأمن بمعناه الشامل يحتوي على أشكال أو عناصر متعددة متداخلة ومترابطة كل منهما يؤثر ويتأثر بالآخر، والأمن الاجتماعي يُعتبر الشكل العام ويتفرع منه عدة عناصر(تُعد من مكوناته)، نتناول أهمها على النحو التالي :
الأمن النفسي
لكل شخص الحق في الحياة وأن يأمن على نفسه وعرضه وماله، ولا يجوز لأحد الاعتداء عليها، فالحياة منحة من الله سبحانه وتعالى للإنسان وليس لأحد انتزاعها غير الله، فحياة الانسان مصانة لا يجوز لأحد الاعتداء عليها ولا يجوز لأحد أن يمس سمعة الانسان بالطعن أو القذف أو السب أو الغمز أو اللمز أو الضغينة أو النميمة أو السخرية أو التجسس …إلخ.
كما أعلن رسول الله (ص) في حجة الوداع حقوق الإنسان المسلم فقال: (فإن الله تبارك وتعالى قد حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ألا هل بلغت، ثلاثاً)، لذا فقد حث رسول الله (ص) على حفظ حقوق الإنسان وعدم الاعتداء عليها، إنما أعطى حق انتزاع الحياة وانزال العقوبات للدولة فقط، وفقاً للقانون ولمصلحة المجتمع، ففي العقوبة أمن للفرد والمجتمع، ودور فعال في الحفاظ على المجتمع من الانحراف وردعاٌ للجريمة، قال تعالى ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)).
هناك عدة تهديدات للأمن الشخصي وهي خوف الإنسان من الجريمة أياً كان نوعها مثل الاعتداء على (النفس، العرض، السرق، السلب، النهب، الاختطاف، التقطع، حوادث النقل، حوادث الحرائق، الحوادث الصناعية، المخدرات، العنف، الإرهاب، …إلخ)، كل تلك أصبحت مصدر خوف على الأمن الشخصي، وأمن الانسان يعني توازن شخصيته واستقرارها وعدم الخوف من أي مصدر.
هناك وجهين لأمن الإنسان (داخلي وخارجي)، ويصعب الفصل بينهما، لأن نسيج الشخصية الإنسانية متماسك ومترابط، فيجب توازن أمنه الداخلي والخارجي لاستقراره، وإذا اختل ذلك جعله فريسه للخوف والتوتر والانفعال، فالسلام الداخلي والتوازن النفسي هما دعامة الأمن الذاتي، حيث ينبع السلام من أعماق النفس السوية، المتغذية بمفاهيم صحيحة يكتسبها الانسان منذ نعومة أظافره وتُدعمها التربية الأسرية والمدرسية والاجتماعية.
فانعدام الأمن النفسي يُعد من المشاكل التي تحتاج إلى معالجة لما لها من آثار سلبية على المجتمع، ومعالجتها تكون من خلال قيم أساسها القناعة والاعتماد على الذات، عندها يصل إلى اطمئنان بأنه لا رازق ولا مميت إلا الله، فحالة الاطمئنان تحول دون التفكير في الانحراف، فالاستقامة واجب ديني تقتضيه المصلحة الاجتماعية بالدرجة الأولى، فالإنسان لا يخشى إلا الله سبحانه وتعالى ولا يسأل إلا الله وحده.
يبدأ الانسان بإصلاح نفسه، يبدأ بإصلاح قلبه فهو الأساس، فعن رسول الله (ص) أنه قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، ويكون ذلك عن طريق الاتصال بالله عز وجل، الذي يؤدي للاستقامة في السلوك، وفيه وقاية وعلاج من الانحراف والمرض النفسي.
صلاح الفرد يعني صلاح المجتمع، فالفرد هو اللبنة الأساسية للمجتمع، وصلاح المجتمع يعني شعور الفرد بالأمن في الجماعة، وذلك من الأسباب المهمة للشعور بالسعادة والاطمئنان، أما حالة المرض النفسي تجعل صاحبها يعيش في حالة قلق دائم وخوف من الآخرين.
الأمن الاقتصادي
يتمثل الأمن الاقتصادي في تأمين الغذاء والكساء والمأوى وتأمين حاجات المجتمع، بمنع الاحتكار والاستغلال، وزيادة الانتاج وتنمية الموارد وتوزيعها بعدل، والحد من نسبة البطالة وحماية المال العام، فالعلاقة بين الأمن والاقتصاد وثيقة، كما أن الاقتصاد أحد مقوماتها الحياة الاجتماعية، حيث اعتبره الماوردي من الست القواعد التي تصلح بها الدنيا وتنتظم بها الأحوال، وذلك ما سماه بـ(خصب دار)، فمن يملك المال يستطيع بناء منزل ويستطيع توفير الغذاء والكساء وكل احتياجاته كالتعليم والصحة ..إلخ، وبالمال يستطيع المجتمع تنمية العنصر البشري بدنياً وعلمياً، ويستطيع إيجاد المؤسسات التعليمية والصحية والبحثية ..إلخ، فالاقتصاد هو مركز البناء الاجتماعي وبانتظامه يكون الاستقرار.
وبدون الاقتصاد السليم قد تنتشر الجرائم والاعتداء على الأموال ويعم الخوف والفزع، لأنه لا أمن لجائع ولا أمن من الجائع، فعندما يشعر الفرد بعدم الأمن في العثور على العمل بسبب البطالة أو أنه يعمل ولكن الدخل لا يكفي لسد حاجاته الضرورية له ولأفراد أسرته، أو بسبب ارتفاع الأسعار، يجعله خائفاً على حياته المعيشية، وقد يكون دافعاً له ليرتكب الجرائم والمحرمات في سبيل توفير ما يحتاجه، مما يؤدي إلى خلل في الأمن الاجتماعي ككل، لذلك فالأمن الاقتصادي جزء لا يتجزأ من الأمن الاجتماعي.
ومن حكمة الله عز وجل أن جعل الناس أغنياء وفقراء، ومن العدالة وجود تكافل بين الفريقين، من خلال الزكاة والصدقة والوقف والكفارة والهبة ..إلخ، فهي معالجات وضعها الخالق جل جلاله ليتحقق الأمن الاقتصادي، كما أن من المعالجات حسن استغلال الموارد المتاحة بشرية كانت أو مادية (الكفاءة)، ومن ثم توزيع الثروة والدخل على أفراد المجتمع بعدل، وحسب معايير لا يُظلم من خلالها أحد، من المعالجات أيضاً الاهتمام بالإنتاج والاستثمار في شتى المجالات التنموية، كما يجب تعاون المجتمع والدولة لإيجاد فرص عمل للحد من نسبة البطالة، كما أن على الدولة حث أفراد المجتمع للعمل في الزراعة والصناعة وغيرها.
هذه المعالجات تضمن الوصول إلى مركز اقتصادي آمن للدولة، أي يتحقق (الأمن الاقتصادي)، وبتأمينه سيشعر الإنسان والمجتمع بالطمأنينة والاستقرار من خلال توفر احتياجاتهم الأساسية والكمالية، الأمر الذي سيؤدي إلى نهضة في جميع المجالات.
الأمن الغذائي
الغذاء هو كل ما يتغذى به الإنسان من طعام وشراب، وهو ضرورة حيوية واحتياج أساسي (فسيولوجي) للإنسان لا يستطيع البقاء بدونه، وعندما تتوفر المواد الغذائية لدى أي مجتمع بالمقادير المناسبة ويحصلون عليها بطريقة سهلة تستقر الحياة الاجتماعية، وباستقرارها يتجه المجتمع نحو البناء والتنمية، ومتى أصبح الأمر غير ذلك وانشغل الناس بقوتهم ساد القلق وبرزت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
الأمن الغذائي معناه أن يكون لدى جميع الناس في جميع الاوقات إمكانية الحصول مادياً واقتصادياً على الغذاء الأساسي، ويكون ذلك من خلال تحقيق الاكتفاء الذاتي للسلع الغذائية بدلاً من الاعتماد على الغير في الحصول عليها (الاستيراد) كلياً أو جزئياً، حيث يُعرف الاكتفاء الذاتي بأنه (قدرة المجتمع على تحقيق الاعتماد الكامل على النفس والموارد والامكانات الذاتية في إنتاج كل احتياجاته الغذائية محلياً، مما يعني الأمن الغذائي الذاتي دون ما حاجة إلى الآخرين).
وهناك من تحدث عن الأمن الغذائي بأنه يشمل ثلاثة أركان هي :
1-الوفرة، أي توافر السلع الغذائية التي يحتاج إليها المواطن في السوق المحلية.
2-الاستقرار، أي أن تكون هذه السلع متوافرة طوال الوقت.
3-إمكانية الحصول عليها، بمعنى أن يكون دخله كافياً لشراء ما يحتاج إليه من السلع دون عناء.
وتدني مستوى المعيشة والفقر له آثار سلبية في شتى المجالات فالمشاكل الناتجة من سوء التغذية تؤدي إلى اضعاف جسم الإنسان وظهور مختلف الأمراض، والنقص في الفيتامينات يؤدي لضعف مناعة الجسم وينعكس ذلك على النشاط الإنتاجي للأفراد وعلى فاعلية عملهم وعلى قدرة الأيدي العاملة، ويتأثر بذلك مستواه الفكري، كما أن من آثار الفقر المدمرة تفكك الأسر وتشرد الأطفال، ومن أهم الأخطار التي تهدد أمن الأفراد والشعوب ما يصيب مصادر الرزق من آفات وكوارث فيقللها أو يقضي عليها لأنها قوام الحياة فلو نضبت شاع الاضطراب وتهدمت أركان الحياة فلا أمن ولا استقرار بل تسود الفوضى وتنتشر الجريمة بفعل العصابات والجماعات المنتشرة التي تنتهك الحرمات لأن الجوع كافر، كما يقولون فالجائع لا يردعه رادع.
هذا ويرى البعض أن العلاقة بين الأمن الغذائي والأمن الاجتماعي هي علاقة تماثلية، حيث أن كلاً منهما يمكن أن يكون سبباً في إحداث الآخر، وكذلك عدم توفر الأمن الغذائي هو سبب عدم توفر الأمن الاجتماعي بل يُعد المدخل لتحقيقه، وقد جاء في القرآن الكريم ما يشير إلى العلاقة بينهما حيث جاء ذكر الجوع والخوف مقترنين، قال تعالى ((فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعِ وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)).
وقال سبحانه وتعالى ((وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّبِرِينَ)).
لذا فتوفير المواد الغذائية يُعد من الضروريات للإنسان سواءً من خلال الإنتاج أو القدرة الشرائية أو غير ذلك، لأن توفرها وسهولة الحصول عليها، تجعل الإنسان يعيش في سلام وطمأنينة، متجنباً الخوف والقلق والاضطراب أو حتى الانحراف لا سمح الله، لأنه أصبح آمن على إشباع احتياجاته الغذائية من أي مصدر مشروع، وهذا يكون له انعكاساته الإيجابية على الصحة والتعليم وعلى عملية الإنتاج … إلخ.
الأمن الصحي
إن الصحة تمثل عنصراً جوهرياً لأمن الإنسان، من حيث البقاء حياً أو الوقاية والحماية من المرض، فالصحة الجيدة هي التي تمكن المرء من التمتع بالحياة وإحراز التقدم، أما تردي الصحة فإنه يُضعف القدرات الأساسية للإنسان، وقد تؤدي إلى آثار سلبية على الفرد والمجتمع، ومن هنا تتداخل الصحة وتترابط مع الأمن الفردي والاجتماعي في المجالات السياسية والاقتصادية والغذائية…إلخ، فالصحة حق أساسي للإنسان ويجب أن يكون على مستوى من الصحة يسمح له بالعيش حياة منتجة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً.
هناك علاقة متبادلة بين الماء والغذاء والمسكن والصحة، فالأمراض التي تسبب في أغلب الوفيات وخاصة الأطفال ترجع إلى الأمراض المعدية بسبب سوء التغذية والأوضاع السكنية الرديئة، فالعوامل الفيزيائية تؤثر على صحة الناس وسعادتهم، كالصرف الصحي غير الكافي، والحشرات الناقلة للأمراض وعدم توفر المياه الصالحة للشرب، بالإضافة إلى البيئة الاجتماعية (الفقر، التمزق الاجتماعي).
الرعاية الصحية
هي (مجموعة الخدمات والإجراءات الوقائية التي يقدمها جهاز الرعاية الصحية والمؤسسات التابعة له لجميع أفراد المجتمع بهدف رفع المستوى الصحي والحيلولة دون حدوث الأمراض وانتشارها، مثل الاهتمام بصحة البيئة والمسكن والمياه والغذاء والتصريف الصحي، وكذلك حملات التحصين والتطعيم ضد الأمراض المعدية والخطيرة).
الرعاية الطبية
هي (الخدمات العلاجية أو التشخيصية التي يقدمها أحد أعضاء الفريق الطبي إلى فرد واحد أو أكثر من أفراد المجتمع مثل معالجة الطبيب لشخص مريض، وتشمل كل الخدمات التي يؤديها فرد من الفريق الطبي إلى فرد من أفراد المجتمع من تقديم الدواء والغذاء والمعاملة الحسنة ..إلخ).
وترتبط الرعاية الصحية وعلاج المرضى بتقدم المجتمع وتطوره وارتفاع مستوى معيشة أفراده وزيادة درجة وعيهم بمظاهر الصحة وعوامل المرض وأسس التغذية وحماية البيئة، كما تُعتبر المشكلة الصحية المنتشرة في الكثير من المجتمعات دليلاً على التخلف الاجتماعي وتدني مستوى المعيشية، فالظروف الاجتماعية السيئة كالفقر والبطالة والازدحام وتدني مستوى الخدمات الصحية وانتشار القاذورات والأوساخ والبراغيث والذباب وتلوث مياه الشرب وغيرها تسهم في انتشار الأوبئة والأمراض المعدية.
وقد تناول التشريع الإسلامي الصحة وأوجب صيانة الحياة من كل ما يقضي عليها أو يتلفها أو يضعفها بل أوجب العناية بالصحة العامة ودفع الأمراض فقصة الوباء (طاعون عمواس) الذي حصل في عهد عمر بن الخطاب حينها منع الجيش من دخول الأرض الموبوءة، عملاً بقول رسول الله (ص) : (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه)، فكان ذلك أول إعلان لمبدأ الحجر الصحي في العالم، وأمر الأفراد برعاية صحتهم ونهيهم عن كل ما يضعفها، فنجد ذلك في قوله سبحانه وتعالى : ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)) وقول رسول الله (ص) : (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له دواءً)، فالأكل والشرب سبب استمرار الحياة والإسراف فيهما منشأ للأمراض والعلل.
لذا فإن حق الإنسان في الصحة وحمايته من الأمراض يجب أن يكون من أولويات الدولة وواجباتها، وذلك من خلال المعالجة أو الوقاية عن طريق التوعية الصحية عبر وسائل الإعلام المختلفة حتى يتمكن الفرد والأسرة والمجتمع من اتخاذ الإجراءات الوقائية من الأمراض، فالإنسان عندما يتمتع بالصحة الجيدة يحتفظ بطاقته الانتاجية والإبداعية الذهنية والبدنية، فالأمن النفسي والبدني مرتبط بالصحة، لذا فالأمن الصحي جزء لا يتجزأ من الأمن الاجتماعي.
الأمن البيئي
يعتبر التلوث الوجه الآخر المقابل للرفاهية وهو نتاج الصناعة والعمران والملوثات التي تطلقها الصناعة في عناصر البيئة من الهواء والماء والتربة، مما يسبب تغيراً في جودة هذه العناصر، والبيئة بكل عناصرها (الأرض، الماء والهواء) إحدى نعم الخالق جل جلاله على الإنسان، والتي أوجب الحفاظ عليها بالسعي والعمل والتفاعل والتعاون بين الناس دون إفساد أو إتلاف لعناصرها.
عملاً بقوله تعالى (( كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ))
والواقع إن الإنسان لم يستجب لهذه التعاليم الدينية، حيث يسعى جاهداً ويتباهى بإنجازاته التكنولوجية الحديثة دون أن يعي أنه يُفسد في الأرض بعد إصلاحها ويهدد عناصر البيئة ويخل بأمنها وبتوازنها، ولذلك تفاقمت المخاطر البيئية التي صنعها الإنسان تحت مسميات التنمية والتقدم مما أدى إلى زيادة مشكلات تلوث البيئة وانتشار الأمراض الوبائية التي لم يكن لها وجود في الماضي.
لذا فإن الإنسان بقدر ما يسعى إلى استغلال البيئة فإنه في المقابل لابد أن يسعى إلى المحافظة عليها من أي إهدار أو تلوث لأن العلاقة بين الإنسان والبيئة علاقة وثيقة، لأنه لن يستطيع العيش في حالة تلوث الأرض أو الماء أو الهواء، فهو بحاجة إلى البيئة الصالحة النقية من أي تلوث يهدد أمنه واستقراره، لذا فالأمن البيئي جزء لا يتجزأ من الأمن الفردي والأمن الاجتماعي الشامل.
الأمن الحمائي
ويُقصد بالأمن الحمائي حماية الإنسان من الاعتداء على حياته وماله وعرضه وذويه من أقرانه البشر، حيث يستمد الإنسان حمايته بشكلين هما كالتالي :
1-الشكل الرسمي، يستمد حمايته من الدولة ممثلة بالأجهزة الأمنية (الشرطة أو البوليس)، وعادة ما يكون هذا الشكل في المناطق التي تبسط عليها الدولة نفوذها وهيبتها.
2-الشكل غير الرسمي، يستمد حمايته بانتمائه إلى جماعة، سواءً كانت أسرة أو جماعة عنصرية أو عرقية أو قبيلة أو تنظيم سياسي ..إلخ، ويكون ذلك غالباً في المناطق التي لا تبسط فيها الدولة نفوذها.
والأمن الحمائي الرسمي هو الجهاز الأمني بكافة وحداته، والتي تقوم بحماية الفرد والمجتمع والأموال والممتلكات من جرائم القتل والسرق والسلب، والنهب، والتخريب، كما تعمل على الحفاظ على الأمن العام والآداب العامة والسكينة العامة، وخصوصاً العمل على الوقاية من الجريمة ومكافحتها والبحث عن مرتكبيها والقبض عليهم وفقاً للقانون، ولا نغفل أن من حق الإنسان أن يلجأ للقضاء في الدولة لإنصافه وضبط الجناة المعتدين لينالوا جزائهم العقابي المناسب.
لذا ففي وجود الأمن الحمائي يستطيع الإنسان أن يمارس أعماله المهنية أياً كانت في أمن وأمان، وأن كل همه يتركز حول مزاولة نشاطه المهني اليومي وكيف يوسع من إنتاجه في العمل الزراعي أو الصناعي أو الطبي أو الهندسي أو العلمي …إلخ، وكيف يبدع ويشارك أفراد المجتمع في عملية التنمية، في المقابل فإن الإنسان في حالة الخوف لن يستطيع عمل شيء، لذا نخلص إلى أن الأمن الحمائي بشكليه (الرسمي والغير رسمي) يُعد سياجاً واقياً للفرد والمجتمع من الانحراف، وهو أهم عنصر من عناصر الأمن الاجتماعي.
الأمن الصناعي
يُعرف الأمن الصناعي بأنه “توفير الأمن والسلامة داخل المنشآت، بمعنى حماية معدات أو مقومات الإنتاج، سواءً الأفراد أو المعدات أو مواد الإنتاج”، فالأمن الصناعي يعمل على المحافظة على عناصر الإنتاج وهي (العامل والآلة والمادة)، فمثلاً يعمل على حماية العامل من مخاطر الصناعة وتوفير أساليب الأمان، وذلك بتوفير وسائل وشروط الوقاية بكافة أشكالها وتهيئة جو صالح للعمل بالمنشآت، بهدف استمرار العمل بكفاءة تحت كل الظروف.
والأمن الصناعي له شقين، الأول وقائي ويهدف لمنع الخطر قبل أن يقع وذلك من خلال توفير أسباب الوقاية ومنع تسلل المخربين، بتنظيم خدمات الأمن الداخلي والحراسة، ومنع الحريق بمنع أسبابه ومنع الانفجار بإحكام الرقابة والتأكد من عدم تواجد الأشياء المُسببة له، ومنع الانهيار بتوفير أسباب الصلابة في المباني والإنشاءات ..إلخ، أما الشق الآخر فهو علاجي ويهدف إلى علاج الخطر بعد وقوعه، وذلك بتوفير فرق متخصصة في الرقابة والإنذار عند وقوع أي طارئ، وكذا توفير فرق التدخل للمواجهة في وقوع أي كارثة كالحرائق أو الانهيارات أو الانفجارات وغيرها من الحوادث، وذلك للتخفيف أو الحد من آثارها كفرق الإطفاء لمواجهة الحرائق وغيرها من فرق الإنقاذ والإسعاف.
فالأمن الصناعي في المنشآت الصناعية هو أمن لأفرادها وآلاتها وإنتاجها وتصديرها واستيرادها، فإذا لم يتوفر لها الأمن اللازم تفقد فاعليتها وبالتالي تفقد مبرر وجودها، ولا يتوقف الأمن عند ذلك فقط بل يجب تأمينها من أخطار الكوارث مثل فيضانات السيول، بحيث تبقى المؤسسة الصناعية مستمرة في عملية الإنتاج تحت كل الظروف، لهذا فالأمن الصناعي له أهمية في الأمن الاجتماعي لأن الصناعة تُعد الركيزة الأساسية في الحياة الاجتماعية وذلك من خلال إنتاج المواد الغذائية والصحية والملابس ووسائل النقل ..إلخ.
الأمن السياسي
يتمثل الأمن السياسي في (رسم سياسة الدولة داخلياً وخارجياً وفق منهج محدد مرسوم، يحقق حماية المجتمع والأفراد ويحدد طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فيحمي كرامة الحاكم من ناحية، كما يحمي الشعب من طغيان الحاكم وذوي السلطان، وذلك بجعل الأمر شورى بين المسلمين، ومحاسبة الحاكم إذا قصر وتوجيهه إذا أخطأ، وإتاحة الحرية للناس في المشاركة في أنظمة الدولة، واحترام القانون وحرية الرأي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون خوف من بطش أو اعتقال).
وقوام الأمن السياسي (العدل والشورى)، فالعدل فريضة واجبة على الحاكم وعلى كل من يتولى أمر من أمور المسلمين، مصداقاً لقوله تعالى((وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)) بل حتى على مستوى رب الأسرة يجب أن يعدل بين أولاده وزوجاته، فالعدل يولد الأمن والاستقرار وبه تصلح أمور الناس.
أما الحكم بالشورى فهو أن يقوم الحاكم باستشارة أهل الخبرة والكفاءة في كل أمر من الأمور التي تهم الأمة وعدم الانفراد بالرأي، لأن الانفراد يُعتبر استبداد، قال تعالى (وشاوِرْهم في الأمْرِ)، والشورى لا تقتصر على الحاكم بل على كل من يتولى أمر من أمور الأمة، بل حتى على مستوى الأسرة أيضاً.
فبوجود العدالة يطمئن الإنسان على نفسه وعرضه وأمواله وعلى حرية الرأي والفكر ويدوم الأمن والاستقرار، لذا فالعدل شرط أساسي للأمن والاستقرار واذا غاب العدل ظهر الظلم وظهور الظلم يؤدي الى عدم الاستقرار في المجتمع والدولة.
الأمن الفكري
الأمن الفكري هو (اطمئنان الناس على مكونات ثقافتهم النوعية ومنظومتهم الفكرية)، وانعدام الأمن الفكري أو التلاعب به من الداخل أو الخارج له تأثير سيئ، فالغزو الفكري يضعف الأمن الداخلي، كما يُقصد بالأمن الفكري (المحافظة عليه من الانحراف عن المعتقدات والقيم وقوانين وأنظمة المجتمع).
ويرى البعض أن من أسباب جرائم العنف والتفجير والتكفير التي تحدث في الحاضر وفي شتى بقاع العالم ترجع إلى خلل فكري لدى من يقومون بها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يلاحظ الجميع الحرب الإعلامية التي يشنها الغرب عبر مختلف الوسائل على الإسلام والهوية العربية، وهذا قد يؤثر على عقول الأطفال والشباب والشابات وضعفاء النفوس.
لذا لابد من تحصين الفكر وحمايته من أي خلل قد يؤدي إلى الاضطراب عن طريق المؤسسات الاجتماعية (كالأسرة، والمؤسسات التعليمية، والدينية والإعلام ..إلخ) والتي تقوم بمواجهة المشكلة سواءً على المستوى الوقائي أو العلاجي، ولما لها من دور في تحصين الفكر لدى الفرد والمجتمع .
دور المؤسسات المجتمعية في تحصين الفكر
1-أن تهتم الأسرة بغرس القيم الدينية والأخلاقية السليمة مع الاعتدال في تأديب أبنائها وتربيتهم على المناقشة والحوار وإرشادهم والإشراف على سلوكهم ومناقشة مشاكلهم بتفاهم وود وأن يسعى رب الأسرة إلى تكوين الاتجاهات الفكرية الإيجابية لأفراد الأسرة وخاصة الشباب.
2-أن تغرس المؤسسات التعليمية في فكر الطالب القيم الدينية والعدل والمحبة والعفة والنزاهة وتحمل المسؤولية واحترام القوانين والانتماء القوي للوطن وتفضيل الصالح العام على المصالح الشخصية.
3-الاهتمام بالتربية في المدارس والمساجد بإرساء أسس الفكر الصحيح الذي يعصم من الانحراف والزلل وهو تدبير وقائي قبل أن يكون علاجي بتعزيز التربية القرآنية.
4-قيام المسجد بدور التوعية والتنوير وتوضيح كافة المفاهيم الغامضة في الشرائع السماوية.
5-إقرار مبدأ الوسطية والاعتدال فالمنهج القرآني يرفض التشدد والتفريط.
6-دراسة واقع الشباب وحل مشكلاتهم بطرق علمية سليمة، وملء أوقات الفراغ واستيعاب الطاقات المكنونة وتوظيفها في إطار برامج هادفة.
7-إعداد مناهج التربية والتعليم بحيث تكون قادرة على بناء شخصية الإنسان المستقيم.
8-ابتعاد القنوات الفضائية التلفزيونية عن بث البرامج والأفلام المثيرة للغرائز والتي تشجع على العنف والرذيلة والجريمة، والتي تظهر المنحرفين بالصورة البطولية مما يدفع الشباب إلى تقليدهم.
9-تركيز وسائل الإعلام على القضايا التي تهتم بنشر جوهر الدين وإشاعة الأمان والبر والتعاون والرحمة والتواصل والاعتدال الفكري وكل ما يفيد الإنسان ليحيى حياة طيبة صالحة.
من التحصين الفكري أيضاً أن نأخذ حذرنا في نقل الثقافة الأجنبية إلى بلادنا، فينبغي على المترجمون لهذه الثقافات ألا يعرضوا أو ينقلوا لنا في مجال الثقافة والفكر إلا ما هو متوافق مع ديننا وفكرنا، إذ يجب على الأمة ألا تقع في مزالق التغريب فتطمس هوية المسلم وتفقد توازنه فالأمن على العقول لا يقل أهمية عن أمن الأرواح، كما يلزم ترسيخ عقيدة الإيمان بالله وأن الإسلام منهج شامل للحياة من جميع جوانبها.
الأمن الثقافي
إن الأمن الثقافي لأي بلد يُعد ضرورة اجتماعية لأن ثقافة البلد هي حضارته التي اكتسبها على مر السنين وصارت جزءاً لا يتجزأ من كيانه، لذا فإن الدفاع عن الثقافة دفاعاً عن المجتمع وبنيته الأساسية، وتُعرف الثقافة بأنها “مجموعة الأفكار والقيم والمعتقدات والتقاليد والعادات والأخلاق والنظم والمهارات وطرق التفكير وأسلوب الحياة والعرف والفن والنحت والرقص الشعبي والآدب والرواية والفلسفة والتاريخ وكل ما صنعته يد الإنسان وأنتجه عقله من نتاج مادي ومعنوي فكري أو توارثه من الأجيال السابقة أو أضافه تراثه نتيجة عيشه في مجتمع معين”.
نلاحظ أن الثقافة شاملة كل شؤون الحياة، غير أنها تختلف من مجتمع لآخر، لأن لكل مجتمع خصائصه الثقافية التي يتباهى بها عن المجتمعات الأخرى، كما ينبغي هنا ألا نغفل التزود بالثقافات الجديدة، من خلال التبادل الثقافي والمعرفي بين الشعوب، حتى لا تكون ثقافتنا منغلقة، لكن يجب أن يكون التزود وفقاً للرؤية الإسلامية، حيث نأخذ منها ما هو لازم دون أن تُصاب البنية الثقافية لنا بأي أثر سلبي.
هذا وتتمثل المقومات الفكرية للأمن الثقافي في الإسلام (بتعاليمه وأحكامه ومضامينه الثقافية والاجتماعية)، وهي مقومات لا تتوفر لدى أغلب الفلسفات والأديان الأخرى، ولما للثقافة الإسلامية من دوراٌ هام في تحقيق الأمن للفرد والمجتمع الإسلامي، نلاحظ استهداف العدو الغربي لتعاليمه وللحضارات والقيم والتقاليد أيضاً قبل استهدافهم للقوة العسكرية، سعياً منهم لتحطيم المجتمع وتفكيك نسيجه وترابطه، عبر غرس قيم الانحطاط الأخلاقي والانحلال في أوساط المجتمعات العربية، مما يصنع مجتمع شهوانياٌ ضعيف، ولأن النفوس إذا ذلت وخضعت لن تكون قادرة على حمل السلاح وتحمل مشقة الدفاع والمواجهة والقتال.
كما نلاحظ سعيهم إلى فرض ثقافتهم على الشعوب الأخرى لاعتقادهم بأنهم قادة العالم، والآخرين مجرد تابعين لهم، لذا يجب على الأمة الإسلامية أن تكون قادرة على التعامل مع الثقافات الأخرى خاصة الغربية، والعمل على التحصين الثقافي، فهو تحصين أمني بالدرجة الأولى، فالأمن والثقافة لا ينفصلان بل يتفاعلان، إما سلباً فتنهار القيم والمبادئ وينهار المجتمع، أو إيجابياً لبناء الأمة ونموها وتحصين أفراد المجتمع، فالأمن الثقافي والحضاري هو أمن الروح التي تسري في المجتمع وانهيارها هو انهيار للهوية الوطنية والحضارية وبالتالي انهيار الأمن الاجتماعي الشامل.
عناصر الأمن الاجتماعي
للعودة إلى قسم العلوم الأمنية من هنــــــــــــا